الاثنين، 17 نوفمبر 2014

الضمانات القانونية لحماية الحريات العامة

تأتي الضمانات القانونية في مقدمة ضمانات الحريات العامة لأنها تأتي ضمن إطار البنية القانونية للدولة، فتحاط بالجزاءات القانونية التي تكفل لها الفعالية إذا تم تنظيمها تنظيما سليما على هدي المبادئ والقواعد والأحكام التي يتألف منها الكيان الدستوري للدولة والذي يجعل ممارستها في علاقتها مع الأفراد والجماعات تنتظم في إطار القانون وتتقيد بأحكامه.
أولا: مبدأ فصل السلط
يعد مبدأ الفصل بين السلطات من الضمانات القانونية الهامة للحريات العامة، ويقصد بالفصل بين السلطات كضمانة من ضمانات حماية الحريات: أن تكون لكل سلطة من سلطات الدولة الثلاث اختصاصاتها المحدودة، بحيث تكون منفصلة عن الأخرى فصلا مرنا، فيقوم هناك نوع من التعاون بين السلطات وتمارس كل سلطة رقابتها على الأخرى حرصا على عدم المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم، وتتفادى الدولة الانحراف بالسلطة أو التعسف باستخدامها.[1] لذا فإن الغاية الأساسية ونقطة البدء بالنسبة لهذا المبدأ تتمثل في حماية حقوق الأفراد وحرياته. وبل وعلى ضوئه أضحت عقيدة فقهاء القانون العام تتجه نحو القول: أنه لا حرية سياسيا بدون مبدأ فصل السلطات.[2]
ويتضمن مبدأ فصل بين السلطات معنيين أساسيين: سياسي وقانوني. أما المعنى السياسي فمضمونه: عدم تركز سلطات الدولة في قبضة شخص أو هيئة واحدة بمعنى أن الشخص الواحد لا يجوز أن يتولى أكثر من وظيفة واحدة من وظائف الدولة الثلاث: التشريع والتنفيذ والقضاء. فعلى سبيل المثال لا يجوز أن يكون الوزراء من بين أعضاء البرلمان.
وأما المعنى القانوني فيتعلق بطبيعة العلاقة بين السلطات المختلفة في الدولة، وبهذا المعنى تنقسم النظم إلى نظام رئاسي، ونظام برلماني ونظام شبه رئاسي:
فالنظام الرئاسي يتميز بالفصل بين السلطات فصلا عضويا حيث تكون كل سلطة مستقلة عن السلطات الأخرى في مجال الوظيفة والتكوين والحل، بمعنى أن كل سلطة لا تتدخل ولا تشرف على وظائف سلطة أخرى في الدولة، فعلى سبيل المثال تكون السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية، ولا يكون الوزراء مسؤولين أمام السلطة التشريعية.
أما في النظام البرلماني فكل سلطة لا تمارس وظائف سلطة أخرى ولكن يوجد تعاون ورقابة متبادلة بين السلطات، فمثلا من حق الحكومة حل البرلمان، مقابل ذلك يكون للبرلمان حق مساءلة الحكومة، بل وسحب الثقة منها.[3]
لذا فمن منطلق دفع كل استبداد وطغيان، فإن "مونتسكيو" الذي اقترن بهذا المبدأ، كان يقصد من خلال حديثه الفصل أساسا من بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فهما السلطتان اللتان تحرزان الشأن الكبير والأساسي في الميدان السياسي وجمعهما بيد شخص واحد أو هيأة واحدة يعني انعدام الحرية، فكان لا بد أن توقف السلطة سلطة أخرى لئلا تستطيع إحداهما أن تسيء استعمال أو تستبد بالسلطة.[4] ضمن وجهة نظر قانونية فإن تحديد طبيعة العلاقة بين السلطات الثلاثة في الدول وجعل لكل سلطة اختصاص محدد يؤدي تلقائيا إلى وقف اعتداء كل سلطة على اختصاصات الأخرى. فمثلا إذا قررت السلطة التشريعية أمرا ما يتعلق بالحريات العامة فلا يمكن للسلطة التنفيذية أن تعترض على ذلك لأنه تتجاوز اختصاصها، وإذا حدث واعتدت السلطة التنفيذية على حرية الأفراد فإن السلطة القضائية يمكن أن تلغي قرارات السلطة التنفيذية وتعيد الوضع إلى ما كان عليه، لأن السلطة القضائية مستقلة في عملها واختصاصها الوظيفي على السلطة التنفيذية.[5]
وفي واقع الأمر، إن المبدأ يعتبر وسيلة هامة من وسائل الوقائية من التحكم، والجنوح نحو الاستئثار بالسلطة والاستبداد بها. فاحتكار السلطة من قبل شخص واحد أو هيأة واحدة، يمكن أن يؤدي بسهولة إلى طغيان بسبب الميول الأنانية والفردية التي تتضمن الطبيعة الإنسانية[6] فكما يقول المفكر البريطاني "لورد أكتن"  "Lord Acton" "إن كل سلطة مفسدة والسلطة مطلقة مفسدة مطلقة". بينما يشير عالم الاجتماع " غوستاف لوبون" بقوله: "إن السلطة نشوة تعبث بالرؤوس، وتبعث فيها ما يشبه الدوار. ولقد بلغت هذه النشوة برؤوس بعض عظماء التاريخ من أصحاب السلطان المطلق إلى حد أن جعلتهم في بعض الأحيان يأتون ببعض التصرفات التي تحمل طابعا من طوابع الجنون".[7]
وفي كل الأحوال، فإن من شأن مبدأ الفصل بين السلطات حماية حريات الأفراد بوجه تعسف السلطة. وهو مقياس لمدى ديمقراطية النظام واحترامه لمبادئ العدالة والمساواة في المجتمع.[8] فالسلطة لا توقفها إلى السلطة على حد قول "مونتسكيو"
ثانيا: مبدأ سيادة القانون
نظرا للأهمية الكبرى التي يتصف بها القانون والدور المميز الذي يلعبه في تسهيل شؤون الأفراد وتحديد حقوقهم وواجباتهم بشكل عام، فقد أجمع علماء القانون والسياسية على ربط مفهوم سيادة القانون بوجود الدولة الديمقراطية. فهذه الدولة لا يمكن أن تكتسب هذه الصفة إلا إذا استندت مؤسساتها على أولوية القانون الذي يجب أن يسود الحكام والمحكومين على السواء[9]. فالمبدأ يقتضى إذن، احترام الحكام والمحكومين لقواعد القانون القائمة في بلد ما وسريانها سواء في علاقة الأفراد بعضهم ببعض أو في علاقات هيئات الدولة ومؤسساتها. أي أنه يفترض التوافق التصرفات التي تصدر عن سلطات الدولة ومواطنيها مع القواعد القانونية فيها.[10]
وعلى هذا الأساس يمثل مبدأ سيادة القانون، قمة الضمانات القانونية لحماية حريات الأفراد الأساسية، بل أنه يعد الأساس الوحيد لاكتساب السلطة السياسية في الدولة شرعيتها، والعامل الأهم في استقرارها وثباتها لهذا فهو مطلب هام تنادي بها كافة الأنظمة الديمقراطية، حتى غدت الدساتير والقوانين في تلك الأنظمة بما تتضمنه من نصوص تؤكد على تطبيق مبدأ خضوع الدولة للقانون تأكيدا للديمقراطية وضمانة أكيدة لحرية الرأي العام.[11]
وقد كانت بريطانيا أول من طبق مبدأ سيادة القانون الذي أقر بصورة رسمية في قانون الحقوق الصادرة في عام 1689. ومنذ ذلك الحين، ورجال القانون والسياسية في بريطانيا يقدسون هذا المبدأ ويعتبرونه جزءا جوهريا من قانونهم الدستوري وضمانات أساسية لحريات المواطن وحقوقه.
وفي دراسته عن القانون الدستوري استخرج "دايسي" "Diecy" ثلاث قواعد من مبدأ سيادة القانون هي:
1- الحؤول دون ممارسة الحكم الكيفي
2- إخضاع رجال الحكم والإدارة إلى القضاء العادي
3- اعتبار الأحكام الدستورية وما يتعلق منها خاصة بضمان الحريات الفردية من نتاج قانون البلاد التقليدي.[12]
ويحدد "دايسي" المعنى الأول لمبدأ سيادة القانون بالتأكيد على قاعدة قانونية أعمال الدولة على اختلاف أنواعها من تشريع وإدارة وقضاء حيث أنه لا يحق للدولة أن تجريها إلا وفقا للأحكام والأصول المرسومة في القانون حتى أن الموظف لا يكون مسؤولا عن عمله إلا إذا جاء هذا العمل مخالفا لحكم قانوني صريح، ولاسيما بما يتعلق بالقانون الجزائي الذي لا يجيز توقيف حد أو إحالته للمحاكمة إلا بمقتضى الأصول القانونية.[13]
كما يحدد الفرق بين السلطة الكيفية Pouvoir Arbitraire وبين السلطة الاستنسابية بأن الأولى، تستمد قوتها من مشيئة صاحبها وحسب، ولا تكون بالتالي خاضعة إلى أي قيد من قيود القانون في حين أن الثانية إنما هي سلطة يمارسها صاحبها المسؤول الذي يعنيه القانون، ضمن حدود يعنيها أيضا القانون، مع الإقرار له، ضمن هذه الحدود وضمنها فقط باستنساب القرار الذي يتخذه بإجراء العمل الإداري أو بعدم إجرائه، وفي حال إعطاء المسؤول المختص به صلاحية إجرائه بتحديد كيفية إجراء هذا العمل.[14] أي بمعنى آخر، أن القانون الذي يمنح الدول الإمكانات الضرورية لأداء مهامها في تسيير الشؤون العامة وتنظيمها، يفرض عليها أيضا قيودا تمنعها من انتهاك حقوق الأفراد وحرياتهم.
1- الدولة القانونية
لم يكن إخضاع الدولة للقانون بالأمر الهين لأنها سلطة، وكل سلطة تميل إلى الإطلاق، وقد زاد في هذا الإتجاه ذلك التأكيد الذي تم لمفهوم سيادة الدولة منذ القرن الرابع عشر، لكن التطور مر عبر مراحل طويلة، وبموافقة الدولة التي تعتبر في أنشطتها الحالية محدودة بالقانون، على أنه تحديد نابع من إرادتها، وهو في النهاية تحديد ذاتي، ومن هذه الزاوية يعتبر تطور النظام الدستوري في كليته تعبير عن التنازل الذي قامت به الدولة من أجل الخضوع للقانون.[15]
بيد أنه مهما يكن الأساس الذي يقوم عليه مبدأ خضوع الدولة للقانون، فلا شك في أنه يبقى من المبادئ الأساسية للدولة الديمقراطية ونظام الدولة القانونية يعني خضوع الدولة للقانون في جميع مظاهر نشاطها، سواء من حيث الإدارة أو القضاء أو التشريع، لأنها لا تستطيع اتخاذ أي إجراء حيال الأفراد أو الجماعات إلا وفقا لقواعد قانونية موضوعة مقدما، تحدد حقوق الأفراد وتعين وسائل تحقيق الأهداف الإدارية، كما أن نشاط الدولة محدود بتحقيق الخير العام للمجموع، فالسلطة مقيدة من حيث أهدافها ومن حيث وسائل عملها على السواء.[16]
وبمعنى أخر، إن الدولة لا تعدو أن تكون شخصا من أشخاص القانون العام تلتزم كباقي الأشخاص بمبدأ سيادة القانون، وهذا يعني أن تكون أعمال هيئاتها العامة وقراراتها النهائية في حدود ذلك المبدأ وفي إطاره. أما إذا كانت على غير هذا الحال فإنها لا تكون صحيحة ولا نافذة أو ملزمة في مواجهة المخاطبين بها، ويكون لكل صاحب شأن حق طلب إلغاؤها ووقف تنفيذها؛ فضلا عن حق طلب تعويض الأضرار التي تسببها وفقا للأوضاع القانونية المقررة[17]
وعليه، فإن أهم ما يميز الدولة القانونية، هو أن السلطات الإدارية لا يمكنها أن تلزم الأفراد بشيء خارج القوانين المعمول بها، وذلك يعني تقييد الإدارة على مستويين:
الأول: لا تستطيع الإدارة حينما تدخل في علاقات مع الأفراد أن تخالف القانون أو تخرج عليه
الثاني: ولا تستطيع أن تفرض عليهم شيئا إلا تطبيقا لقانون أو بموجب قانون.
2- تدرج القواعد القانونية
كان للمدرسة النمساوية وخصوصا "كلسن" "kelsen" و"مركل" "markel" الفضل في استخلاص هذه القاعدة التي تقوم على أن النظام القانوني في الدولة يرتبط بتسلسل وارتباط قواعده القانونية بعضها ببعض. وهذا يعني أنها ليست جميعا في مرتبة واحدة من حيث القيمة القانونية والقوة بل تتدرج هي فيما بينها، مما يجعل بعضها أسمى مرتبة من البعض. وهو ما يعني أن تلتزم كل قاعدة قانونية بأحكام ومضمون القواعد التي تعلوها، فتقف قواعد القانون الدستوري على قمة الهرم القانوني، ثم يلي الدستور التشريع العادي الصادر من البرلمان أو القوانين العادية الصادرة عن الهيئة التنفيذية إعمالا للحق الدستوري الممنوح لها وفقا للأوضاع القانونية المقررة في الدولة، ثم يلي ذلك اللوائح العامة، ثم تقف القرارات الإدارية عند ذلك النظام القانوني وينتج عن هذا التنظيم أن الأدنى يجب أن يتقيد بالأعلى؛ فالقانون مقيد بالدستور، واللائحة مقيدة بكليهما، والقرار الإداري مقيد بأحكام اللائحة والقانون والدستور.[18]
مما لا ريب فيه أن هذا التدرج يعد من لوازم الضمانات القانونية للحريات العامة، لما يؤدي إليه من إقامة النظام القانوني في الدولة على أساس من التنظيم المحكم، بالإضافة إلى أنه يسهل أعمال الرقابة القضائية.
ثالثا: الرقابة القضائية
يراد بالقضاء بمعناه الاصطلاحي الفصل بين الناس في الخصومات على سبيل الإلزام، ووجوده في المجتمع يعد ضرورة لإنصاف المظلومين. فحال الناس لا يخلو من ظلم والقضاء هو الوسيلة التي ترد بها الحقوق إلى أصحابها وتصان بها الحريات والأعراض والأموال.[19]
والدولة التي يوجد فيها قضاء مستقل وتلقى أحكامه احترام الكافة لها، من الحكام والمحكومين، توصف بأنها دولة قانونية، حيث يشعر أهلها بأمان واستقرار ويتمتعون بقسط كبير من الحرية الشخصية أما إذا لم تتوافر للقضاء حصانة ولا استقلال، ولم تقابل بالاحترام الواجب لها فإن هذه الدولة والحال كذلك يمكن وصفها بأنها دولة بوليسية، وئدت على أرضها الحرية.[20] لهذا نجد بأن الكثير من الدول تعارفت على قاعدة ترد بصيغة أو أخرى ومؤداها "أن السلطة القضائية هي الحارس والضامن للحريات الأساسية.[21]
ويتضح دور هذه السلطة في حماية الحريات من خلال إعطاء المواطنين في الدولة حق التقاضي، إذ بإعطائهم هذا الحق يمكنهم إذا تم الاعتداء على حقه، أو إذا أهدرت حرياته أي كان المعتدي عليه فردا أو سلطة، مقاضاة تلك السلطة، أو مقاضاة ذلك الفرد أمام المحاكم المختصة فيحصل على ما فاته من حقوقه وما أهدر من حرياته.
وإذا كان من الممكن تنظيم صور مختلفة لهذه الحماية، كالرقابة البرلمانية والرقابة الإدارية، فإن الرقابة القضائية تبقى الأكثر جدارة في تأمين وتحقيق ضمانة حقيقية للأفراد، فهي تعطيهم سلاحا يستطيعون بمقتضاه الالتجاء إلى جهة مستقلة تتمتع بضمانة حصينة من أجل إلغاء أو تعديل أو التعويض عن الإجراءات الغير القانونية التي تتخذها السلطات العامة، ومن ثم يكون استقلال السلطة القضائية وتمتعها بالضمانات الكافية لصيانة هذا الاستقلال ضروريان لتحقيق رقابة فعالة ومنتجة.[22]
أ- الرقابة الدستورية:
إن ما يميز الدولة القانونية هو خضوعها لأحكام القانون واحترامها لتدرجيتها. وفي ظلها يتأكد سمو الدستور باعتباره القانون الأعلى للدولة بحيث تخضع له جميع سلطات الدولة. ومن مبدأ سمو الدستور، نبعت النظرية المسماة بالرقابة الدستورية على القوانين، وعلى سائر الأعمال التشريعية. وهي نظرية تقوم على التمييز بين طبيعة وقوة ونفوذ المقتضيات الدستورية من جهة، وبين القوانين العادية من جهة ثانية. وبما أن الدستور يعد القانون الأساسي للدولة فلا بد لقوانين الدولة العادية من أن توافق نصه وروحه.[23] وبتعبير آخر، إن المقصود بالرقابة في هذا المقام هي تلك الرقابة المنصبة على ملاحظة الانسجام التشريعي بين قواعد البنية القانونية العادية وقواعد القانون الدستوري، بحيث تكون الأولى غير مخالفة للأخيرة، فإن خالفتها كانت غير مشروعة[24]، أي أن الأصل أن تكون القوانين نابعة من جوهر الدستور ومتطابقة مع نصوصه بحيث تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية.
والجدير بالإشارة هنا، هو الرقابة القضائية على دستورية القوانين لا يمكن تصورها إلا في ظل الدساتير الجامدة والعلة في ذلك، أن هذه الدساتير تستوجب إجراءات مشددة لتعديلها وإجراءات من نوع خاص، أما الدساتير المرنة فإنها لا تتطلب ذلك النوع من الرقابة، أي رقابة دستورية القوانين، لأنه يمكن تعديل قواعدها بنفس الكيفية وبنفس الإجراءات التي تعدل بها البنية القانونية العادية. ومن ثم فلا توجد إلى سلطة واحدة تملك حق تعديل قواعد البنية القانونية المعمول بها في الدولة، ويختفي تبعا لذلك أي تمييز بين أحكامها من حيث الدرجة، أي أنه يختفي التمييز بين التشريع الدستوري والتشريع العادي.
1- الرقابة الوقائية: تكون سابقة على صدور القانون ونفاذه. وتوضيح ذلك أن المجلس الدستوري يتولى فحص دستورية القوانين قبل إصدارها، فإذا تبين للمجلس عدم دستورية القانون المعروض عليه، فإنه يترتب على ذلك عدم إمكان إصداره وتنفيذه. وقد جعل المشرع الدستوري قرارات هذا المجلس غير قابلة للطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن، كما أضفى عليها صفة الإلزام بنسبة لجميع السلطات العامة والإدارية والقضائية.[25]
2- الرقابة القضائية على دستورية القوانين:
إن الأثر القانوني المترتب على الرقابة القضائية على دستورية القوانين هو تبلور صورتين رئيستين لها وهما: رقابة الامتناع ورقابة الإلغاء.
2-1 رقابة الامتناع: وتعني أن يتولى القاضي النظر في القانون ليتحقق من مدى اتساق قواعده مع أحكام الدستور. فإذا ما تبين له الالتقاء والتوافق بينهما عمل على تطبيق القانون على القضية المعروضة أمامه أما إذا كان الوضع على خلاف هذا النحو أي إذا وجد أن القانون غير دستوري فإنه يمتنع عن تطبيقه على القضية المطروحة أمامه. وهذا يعني أن هذه الصورة من الرقابة القضائية لا تحول دون استمرار القانون ونفاذ حكمه في الأحوال الأخرى التي يمكن إعمال بعض أحكامه فيها، بل إن هذه الصورة لا تتنافى مع تطبيق ذات القانون الذي سبق لأحد المحاكم الامتناع عن تطبيق أحكامه في قضية معينة إذا ما عرض ذات النزاع على محكمة أخرى وتطلب الأمر تطبيق نفس القانون.
وإذا كانت الأحكام القضائية التي تصدر في ظل الصورة القضائية تتسم بالنسبية في حجيتها من الناحية النظرية، إلا أن هذه الأحكام قد تكتسب حجية في مواجهة الكافة من الناحية العملية بفضل نظام السوابق القضائية، وما يقوم عليه من التزام ذات المحكمة بمقتضى الحكم الذي أصدرته، وامتداد هذا إلى المحاكم الأخرى التي في نفس درجة المحكمة التي أصدرت الحكم، وإلى المحاكم الأخرى الأقل درجة، ويعد النظام الأمريكي أوضح مثال في هذا الخصوص.[26]
2-2 رقابة الإلغاء: أطلق فقه القانون العام على هذه الصورة رقابة الإلغاء لأنها تمنح القاضي سلطة إبطال القانون المخالف للدستور في مواجهة الكافة عن طريق الدعوى الأصلية أو الفرعية. أي أن هذه الصورة تفترض عرض نزاع أصلي أو فرعي على القاضي، ويتعلق ذلك بنوعيه بالطعن بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه أو المطبق فعلا، فإذا ثبت للقاضي عدم دستوريته أي مخالفته لأحكام الدستور حكم بإلغائه واعتباره كأنه لم يكن من تاريخ صدوره، أو على الأقل إنهاء حياته بالنسبة للمستقبل بحيث لا يمكن التعويل عليه والاستناد إليه.[27]
ب- رقابة المشروعية:
تعتمد الدولة القانونية الحديثة على مبدأ المشروعية، وهو يعني سيادة حكم القانون، أي أن تكون جميع تصرفات الإدارة في حدود القانون، على أن يأخذ القانون هنا بمعناه العام والشامل لجميع القواعد الملزمة في الدولة سواء أكانت مكتوبة أم غير مكتوبة وأيا كان مصدرها مع مراعاة التدرج والتسلسل في ارتباطها وقوتها، ومبدأ المشروعية بهذا المعنى مستقل عن شكل الدولة، فهو يسري على الدولة الديمقراطية كما يسري على الدولة التي تأخذ بأي صورة أخرى من صور الحكم ما دامت تخضع للقانون، أما إذا صودر هذا المبدأ صارت الدولة بوليسية.[28]
وفي نفس الاتجاه العام، فإن المشروعية تعني أن أعمال الهيئات العامة وقراراتها النهائية لا تكون صحيحة ولا مخلفة لآثارها القانونية، كما أنها لا تكون ملزمة للأفراد إلا بقدر مطابقتها لقواعد القانون العليا التي تحكمها، وأن يتمكن الأفراد بوسائل مشروعة من رقابة الدولة في أدائها لوظيفتها، بحيث يمكن أن يردوها إلى جادة الصواب إذا خرجت عن حدود القانون ولا يتأتى ذلك إلا بتحديد الاختصاصات الإدارية، بصورة واضحة لأن هذا التحديد هو الذي سيمكن الأفراد والقضاء من رقابة الإدارة في أداء وظيفتها الإدارية، كما أنه يضع المسؤولية في إطارها السليم.[29]
وهكذا يجب على السلطة التنفيذية في أدائها لوظيفتها الإدارية أن تحترم إرادة المشرع فلا تخرج عن نصوص القانون ولا تتنكر لها أو تعمل على إهمالها بعدم تطبيقها من جانبها أو بعدم زجر المخالفين لها ويترتب على ذلك نتيجة بالغة الأهمية وهي أن كل قرار إداري يصدر عن الإدارة يجب أن يكون مستندا إلى نص قانوني بالمعنى العام. ولما كان هدف مبدأ المشروعية هو الحد من طغيان واستبداد الإدارة وممثليها وإلزامهم حدود القانون في قراراتهم وتصرفاتهم، كان جزاؤهم عن مخالفتهم لهذا المبدأ يتمثل في إجراء الرقابة القضائية على تلك الأعمال باعتبارها الوسيلة الفعالة لحماية مبدأ المشروعية.[30] ذلك أن أعمال الإدارة هي أولى الأعمال بالرقابة القضائية، إذ أنها تمس حقوق الأفراد وحرياتهم خاصة بعد أن تحولت وظائف الدولة من الإطار التقليدي إلى المستوى الاجتماعي – الاقتصادي، مستهدفة من ذلك تحقيق بعض مظاهر العدالة الاجتماعية بين الأفراد. وهناك مجموعة من الأسباب تدعو إلى إعمال الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة، وتتمثل فيما يلي:
* الأعمال المادية، التي تباشرها الإدارة وعمالها وتمتد آثارها إلى الأفراد.
* الأعمال القانونية التي تقوم بها الإدارة سواء أكانت من جانب واحد كالقرارات الإدارية التنظيمية أو الفردية أو من جانبين كالعقود التي تبرمها مع الهيئات العامة والخاصة أو الأفراد.
ويمكن على العموم إجمال حالات عدم المشروعية في ثلاث مجموعات:
* عدم المشروعية التي مردها إلى مخالفة الشكل.
* عدم مشروعية التي مرجعها إلى عدم اختصاص الهيأة التي أصدرت العمل
* عدم المشروعية العادية، وتتضمن:
- العيب في أسباب العمل
- العيب في محل العمل
- العيب في غرض العمل
على أن مبدأ المشروعية ترد عليه بعض الاستثناءات التي تقيد من إطلاقه سواء في الظروف العادية أو الظروف الاستثنائية ويتمثل ذلك في نظرية السلطة التقديرية ونظرية الضرورة والجزاء المفروض من الجهة القضائية المختصة في رقابته على أعمال الإدارة هو الذي يمنعها من ممارسة حكم القوة المادية ومن الاستبداد والتحكم. ويترتب على خروج الإدارة من مبدأ المشروعية بطلان التصرف الذي خالفت به القانون، وهناك مظاهر عدة لهذا البطلان تتفاوت في حجمها وفي آثارها، وفقا لدرجة الانحراف وعليه فقد يكون الجزاء هو إبطال القرار الإداري، أو بطلانه بطلانا مطلقا أو بطلانا نسبيا، بينما يكون في حالات أخرى تعويضا ماليا عن الضرر الحاصل من جراء العمل للمشروعية.[31]



[1] هاني سليمان الطعيمات م.س. ص: 341
[2] صالح حسن سميح م.س. ص: 545
[3] م.س. ص 342
[4] حماد صابر م.س. ص 77
[5] م.س. ص: 344
[6] خضر خضر م.س. ص: 249
[7] م.س. ص: 77
[8] م.س. ص: 251
[9] م.س. ص: 251
[10] م.س. ص: 333
[11] م.س. ص: 335
[12] م.س. ص: 252
[13] م.س. ص: 253
[14] م.س. ص: 253
[15] م.س. ص: 82
[16] م.س. ص: 82
[17] م.س. ص: 532
[18] م.س. ص: 533
[19] م.س. ص: 356
[20] م.س. ص: 356
[21] م.س. ص: 357
[22] م.س. ص: 85
[23] م.س. ص: 85
[24] م.س. ص: 551
[25] م.س. ص: 553.
[26] م.س. ص: 559
[27] م.س. ص: 559
[28] م.س. ص: 87
[29] م.س. ص: 87
[30] م.س. ص: 87
[31] م.س. ص: 89

ليست هناك تعليقات

© جميع الحقوق محفوظة صفحات قانونية 2020 - حقوق الطبع والنشر | الناشر صفحات قانونية | سياسة الخصوصية