الاثنين، 17 نوفمبر 2014

حدود الحريات العامة


إذا كانت كل الحريات التي لم يرد النص عليها صراحة في الدستور تعتبر مباحة طالما أنه ليس ثمة نص تشريعي صريح أو اجتهاد قضائي يدخلها في نطاق الأعمال المحظورة قانونا[1]، فإن تحديد مفهوم الحرية وإقرارها، لا يعني أنها حرية مطلقة بلا قيد ولا شرط، إذ ليس هناك من حريات عامة مطلقة يستطيع الأفراد ممارستها على هواهم، أو كما تمليه عليهم مصالحهم الذاتية الضيقة؛ لأن هذا يعني وبكل بساطة، اختفاء الدولة، وشيوع الاضطراب والفوضى في العلاقات الاجتماعية نفسها.[2] ولذا لابد من وجود ضوابط وحدود للحرية ينبغي أن تقف عندها، مثل:أ- احترام الدستور والقانونمن غير المقبول لأي فرد مهما كان أن يخل بقواعد الدستور أو القانون، بدعوى ممارسة الحرية، ومن ثم ممارسة الحريات العامة، التي يكفلها القانون. فالمشرع يكون مسؤولا عن وضع الضمانات القانونية للأفراد من أجل التمتع بحرياتهم وضمان حمايتها حماية كافيةب- حماية النظام العامةإذا كانت مقتضيات النظام العام لا تسمح بأن تكون الحريات مطلقة، فإن الحريات لا تسمح كذلك بالعبث في تغيير مفهوم النظام العام.[3] لذا فإن حريات الأفراد يقابلها حق الدولة؛ ذلك أن هذه الأخيرة لكي تدوم لا بد لها من النظام ومن تقابل الحريات العامة ومن النظام العام، ينتج أن الحريات لا يمكن أن تكون مطلقة، كما أن النظام العام بدوره لا يمكن أن يكون مطلقا؛ ومن هنا يتعين إيجاد علاقة متوازنة بين الحريات العامة والنظام العام، والمحافظة على التوازن بين الحريات والنظام يتطلب إدراكا ووعيا بأن الحريات من الناحية الواقعية لا يمكن أن تكون إلا نسبية كما أن النظام العام بدوره يجب ألا يتعدى حدودا معينة وإلا اتسم بالديكتاتورية؛ وهذا يعني أن النظام العام لكي يكون ديمقراطيا يجب أن يظل نسبيا.[4]ويمثل النظام العام الأساس العقائدي الذي يشكل أحد عناصر الفكر الديمقراطي، وهو لا يعتبر في هذا الفكر انتقاصا من الحريات بوجه عام، لأنه شرط كامن في الحريات ذاتها أو شرط لممارستها وليس عدوانا عليها، فالديمقراطية ليست من الفوضى، ولذا فإن حدها هو النظام العام الذي يعتبر الحرية المشتركة للكافة.[5]ومن وجهة النظر التقليدية، فإن النظام العام يتكون من عناصر ثلاثة: السكينة والأمن والصحة العامة. وهذا المفهوم هو الحد الأدنى لمضمون النظام العام الذي ينسجم مع المفهوم الليبرالي الذي لا يقبل تدخل الدولة إلا في الحدود التي تبدو ضرورية تامة.والقضاء نفسه حمل على هذه الفكرة الضيقة للنظام العام السؤال الذي يطرح نفسه دائما، هو ألا يمكن أن تتسع هذه الفكرة الاجتماعية، وكنتيجة لذلك ألا يمكن للسلطة الإدارية التدخل لغرض آخر، غير حماية السكينة أو الأمن أو الصحة، وفي الإجابة على السؤال السابق يقرر العميد "ديجي" "إن النظام العام لا يمكن أن يكون إلا المصلحة الاجتماعية". وهذا التأكيد من "ديجي" يؤدي إلى اتساع مفهوم النظام العام عن حدود المفهوم التقليدي له. فالنظام العام بهذا المعنى المتسع يتيح للدولة أن تكفل احتراما أبعد مدى لحدود السكينة والصحة والأمن العام، وبالتالي فإن أهدافا جديدة للضبط الإداري ظهرت اليوم، تتمكن سلطة الدولة بموجبها من أن تكفل ليس فقط تجنب الإخلال بالنظام الصادر عن الأفراد في الطرقات، بل أيضا تفرض توافقا وانسجاما للروابط الاجتماعية بهدف تحقيق الرخاء العام للوطن.[6]وتتنوع تعريفات الفقهاء والفلاسفة للنظام العام وتتعدد، فيعرف "بيردو" النظام العام بأنه "يعد المعبر عن روح النظام القانوني القائم في لحظة معينة أو هو مجموعة المبادئ القانونية التي في مجتمع معين". وفي تعريف آخر، بأنه "مجموعة الخصائص المميزة لفكرة القانون في جماعة معينة"[7]وفي التعبير الأخير، أن حماية النظام العام، تستهدف في آخر المطاف أيضا حماية الحريات العامة نفسها، إذ لا يمكن أن توجد حريات في ظل مجتمع يفتقر إلى النظام العام، وهو مبدأ أساسي لا غنى عنه، لأنه هو الذي يفصل بين الحرية والفوضى[8]ج- المحافظة على كيان الدولةتحرص الدولة على أن تحمي نفسها ووجودها أيضا، من أية محاولة للاعتداء على كيانها باسم الحرية، فالحريات لا يجوز أن تمتد حتى تصل إلى حد تدمير كيان الدولة ذاتها، وإلا كانت نتيجة ذلك تدمير الحريات أيضا، ومن المبررات المتفق عليها لوضع قيود على الحريات ضمان ووجود الدولة واستمرارها بشرط عدم إساءة استخدام حق حماية الدولة في كبت الحريات، وضرورة تحقيق التوازن المطلوب بين الحرية ووجود العدالة.[9]د- حماية حريات الآخرين:والمقصود بها حماية الفرد في ممارسة لحريته الخاصة، من إمكان تقييد هذه الحرية، أو الانتقاص منها أو الإضرار بها من قبل فرد أو أفراد آخرين في المجتمع. وبهذا المعنى تقتصر الحرية على "قدرة المرء على القيام بكل ما لا يلحق ضررا بالآخرين وهكذا فإن لا حدود لممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان إلا تلك التي تؤمن للأعضاء الآخرين للمجتمع والتمتع بهذه الحقوق نفسها، هذه الحدود لا يمكن تحديدها إلا بالقانون" كما ورد في (المادة الرابعة) من الإعلان الفرنسي لحقوق المواطن الصادر في 1789ولأنه تعبير عن الإرادة العامة، ومتمتعا بتأييدها وموافقتها، فإن القانون هو الجهة الوحيدة الصالحة والقادرة على تثبيت القواعد التي تحدد وبالتفصيل النظام العام للحريات وعلى هذا الأساس يصبح المبدأ القائل بأن "حرية الفرد مقيدة بحرية الآخرين" في صلب اختصاص القانون، لأن الإضرار بالحريات الأساسية لفرد ما من قبل فرد آخر، يعرض مرتكبيها للعقوبات المنصوص عليها في هذا القانون.[10]هـ- حماية النظام الأخلاقيتكتسي حماية النظام الأخلاقي للمجتمع أهمية خاصة إذ ليس هناك من مجتمع يتقدم ويستمر بدون مجموعة من القيم الأخلاقية والعادات والتقاليد التي تؤمن تناسقه وبقاءه[11]، ومن هذا المنطلق أولت الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان أهمية خاصة لهذه المسألة حيث ورد في المادة التاسعة والعشرين من إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الصادر في 10 دجنبر1948 في فقرتها الثانية، على أن الفرد يخضع "في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام وللمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي" وأجازت الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية التي وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1966، استخدام مسألة حماية الأخلاق العامة كمبرر لتقييد بعض الحريات مثل حرية التعبير، فقد ورد في (المادة 18)، الفقرة الثالثة، خضوع "حرية الفرد في التعبير عن ديانته أو معتقداته فقط للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستوجبها السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة

[1] م.س. ص: 94[2] م.س. ص: 265[3] حسن البلاوي م.س. ص: 63[4] م.س. ص: 63[5] م.س. ص: 65[6] م.س. ص: 66[7] ن.م. ص: 66[8] م.س. ص: 95[9] م.س. ص: 95[10] م.س. ص: 265[11] ن.م. ص: 266

ليست هناك تعليقات

© جميع الحقوق محفوظة صفحات قانونية 2020 - حقوق الطبع والنشر | الناشر صفحات قانونية | سياسة الخصوصية