الجمعة، 9 يناير 2015

المدرسة الوضعية

     إن هذه المدرسة الايطالية المنشأ والتي تسمى أيضا بالمدرسة الواقعية من ابرز مؤسسيها الأستاذ الكبير في علم الإجرام والطبيب بالجيش لومبروزو lombroso  وفيري  ferriانتقدت النظريات الفلسفية لأنها اهتمت بالبحث في الجريمة وأعلنت عن دراسة المجرم من حيث الأبحاث الإحصائية والملاحظات والتجارب للواقع الوراثي وكذا الاجتماعي والمادي .
 لنلقي نظرة حول آراء كل فقيه من هؤلاء الفقهاء في المباحث الآتية :
نظرية لومبروزو
        إن المهام الطبية التي كان يقوم بها هذا العالم مكنته من دراسة جسم الإنسان وتشريح أعضاء أجسام المجرمين وغير المجرمين، ومن خلال خبرته وملاحظته وصل الى نتيجة مفادها ان المجرم يتميز بخلقه خاصة وسمات نفسية تجعله يختلف عن خلقة الصالحين والشرفاء فالمجرم حسب رأيه يرتكب الجريمة بسبب تكوينه النفسي والبدني وخلص إلى مبدأ حتمية وقوع الجريمة بناءا على التجارب الميدانية التي أجراها من خلال فحصه لحوالي 5907 من المجرمين من نزلاء السجون الايطالية نقف عن ثلاثة حالات منها :
       فيليلا وفيرزني والجندي مسديا الذي كان مصابا بالصرع وهكذا عندما شرح جثة فيليلا اكتشف فراغا في مؤخرة الرأس جبهته يشبه ما يوجد في جبهة القرد، وأوضح أن حركاته كانت تمتاز بالخفة وكان مغرورا ويسخر ويهزأ بالآخرين .
         أما المجرم فيرزني الذي اعترف بقتله لعشرين أنثى مع شربه لدماء ضحاياه بطريقة وحشية، فستخلص إلى أنه يتصف ببعض الخصائص التشريحية والجثمانية للإنسان البدائي، أما الجندي مسديا فقد توصل بعد فحصه إلى أن نوبة الصرع التي أصابته عند ارتكابه للجريمة بأنها وراثية وان سلوكه يتسم بالوحشية والحيوانية، واستنتج أخيرا بان العلاقة بين الإجرام والصرع علاقة متينة، وبالتالي فان هذا النوع من المجرمين يمكن تصنيفهم ضمن خانة المجرم الفطري أو بالميلاد هذا من الناحية العضوية، أما من الجانب النفسي للمجرم فقد لاحظ لومبروزو أنه يتمثل في الوشم الذي يرسمه المنحرف على جسده وينتج عن ذلك ضعف إحساسه بالألم وغلظة قلبه وقلة خجله فيرتكب بالتالي وبسهولة جرائم العرض والاعتداء على الأشخاص.
         إذن فالمجرم بالفطرة أو بالميلاد وحش بدائي يشبع نزاعاته البهيمية على حساب الألم الآخرين .
نظرية فيري
     إن العالم فيري انتقد لومروزو من حيث ربط هذا الأخير الجريمة بالتكوين البدني للمجرم دون اعتماد العوامل الأخرى المتمثلة في المحيطين المادي والاجتماعي.
 إن فيري ظل وفيا لمبدأ مدرسته المتمثل في أن الإنسان في تصرفاته مجبرا لا مخير وان الجريمة التي يقترفها المجرم حتمية لا يمكن تجنبها حتى اجتمعت الظروف المحيطة بها من مادية واجتماعية ونفسية.
         وهذه الظروف حسب فيري تنقسم إلى داخلية وتتمثل في العوامل العضوية والنفسية وخارجية، تتجسد في الأسباب المادية والتي تدخل فيها جغرافية الجريمة من مناخ وتضاريس طبيعية وكذا البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد عند إقدامه على ارتكاب الجريمة، وبالتالي يكون حتما متأثرا بإحدى هذه العوامل أو كلها وبناءا على هذه المعطيات فان المجرم يمكن تقسيمه إلى أصناف :
_ المجرم الفطري أو بالميلاد  :  هو الذي ورث الإجرام من أصله حيث اجتمعت فيه العوامل العضوية والنفسية.
أما من الناحية العضوية فان المجرم يكون شاذ التكوين ويلاحظ ذلك في الأمور التالية :
-         اختلاف شكل وحجم الرأس عما هو شائع في المنطقة والسلالة التي ينتسب إليها المجرم .
-         تشوهات في خلقة العينين
-         تكاثر الشعر وانتشاره في الرأس والجسم
-         نمو زائد في عظم الوجهتين والفكين العلوي والسفلي
      أما من الناحية النفسية فيمكن ملاحظة صفات يتميز بها المجرم منها :
      - قلة الشعور بالألم .
      -  شدة القسوة والحيوانية دون اكتراث الآلام الآخرين .
      - عصبية المجاز وحب الشر والأذى .
      - الوشم المرسوم على أجساد المنحرفين
وهكذا يكون هذا الصنف من المجرمين متوحشا وهمجيا انتقلت إليه هذه الوحشية والهمجية من الإنسان البدائي الأصلي.
المجـــــــرم المجنـــــون   : هو المصاب بالخلل العقلي الذي يجعله عديم التمييز والإدراك فيقدم على ارتكاب الجرائم نتيجة هذا الخلل العقلي ولا فرق بينه وبين الأسوياء من حيث سلامة عقولهم فيما يتعلق بالمسؤولية ففي رأي مدرسة لومبروزو ينساق الكل إلى الجريمة جبرا ولا خيار لهم في ذلك .
المجـــرم العــــاطفي  :  هو الذي لا فرق بينه وبين أصحاب السلوك القويم لأنه سليم فيما يتعلق بالجوانب الوراثية والعضوية كل ما في الأمر أنه يرتكب الجريمة بدافع الأعصاب المتقلبة ومزاجه الحاد الذي يفقده السيطرة على أفعاله، وهو يقدم على جرمه دون سابق تخطيط ولا تصميم والدليل على ذلك أنه عندما يسترجع هدوئه وسكينته يصبح من النادمين على فعلته وقد يقدم على الإنتحار عندما يسترجع شبح جريمته .
المجـــرم بالصدفــــة  :  إذا كان الإنسان ابن بيئته فان المجرم بالصدفة أيضا ابن بيئته الاجتماعية التي يعيش فيها فهو سليم عضويا ونفسيا ولا عيب فيه من ناحية العوامل الداخلية إلا أن وسطه ومحيطه الاجتماعي هو الذي يحفزه ويدفعه إلى ارتكاب الجريمة، وهو كالمجرم بالعاطفة من حيث ندمه لأنه هو أيضا يندم عندما يصحوا ضميره .
المجــــرم المعتـــــاد  :  لا نكون أمام مجرم معتاد إلا إذا تكرر منه الفعل الجرمي ويكون ذلك نتيجة أسباب خارجية طبيعية وقد تكون اجتماعية أو هما معا فأصبح عن طريق التكرار يمارس سلوكا قذرا يصعب عليه الإقلاع عنه أو مقاومته.
     وإذا أردنا أن نجري مقارنة بين أصناف المجرمين الخمسة التي ذكرناها فسيتبين لنا أن المجرمين المجنونين وبالفطرة وبالعاطفة تدفعهم عوامل شخصية داخلية على ارتكاب الجريمة، أما المجرمون المعتادون وبالصدفة فإن الأسباب الاجتماعية هي التي تجعلهم ينساقون وراء ارتكاب الجريمة .
      وهكذا تجدر الإشارة إلى أن أنصار المدرسة الوضعية اختلفوا في الدور الذي تلعبه العوامل الداخلية والخارجية في وقوع الجريمة.
     وهكذا فان الفقيه الفرنسي مييط يقول : " ليست الوراثة التي تخلق المجرم وإنما يخلقه الوسط الاجتماعي، وحين تريد الأمة حقا أن تقلل من عدد الجرائم فإنها تستطيع ذلك حتما، لذلك كان في كل امة المجرمون الذين تستحقهم بسبب سوء نظامها .
نظرية كاروفالو
    يذهب رجل القانون الإيطالي كاروفالو مذهبا آخر مغايرا لما انتهى إليه سابقه يتمثل في أن الوسط الاجتماعي لا تأثير له على انحراف المجرم وميله إلى ارتكاب الجريمة وبالتالي فهو يعارض مطالب المدرسة الوضعية الرامية إلى محاربة الجريمة من خلال إصلاح الأنظمة أو البيئة الاجتماعية بل ذهب ابعد من ذلك إلى القول بأنه لا فائدة ترجى من تغيير المحيط الاجتماعي من أجل زمرة من المنحرفين لا وزن لهم .
     وتختلف المدرسة الوضعية عن المدرسة التقليدية عند تحليلها للمسؤولية الجنائية ودراستها للعقوبة ومكافحة الإجرام.
     وهكذا بالنسبة للمسؤولية الجنائية فإنها ترى أن المجرم مجبر في تصرفاته ولا خيار له في أفعاله، وبالتالي لا يمكن أن ينسب له الخطأ، فهذه المسؤولية ليست جنائية ولكنها اجتماعية تخل بأمن واستقرار المجتمع وبالتالي لابد من الإجراءات الوقائية في مواجهة الأسوياء وغير الأسوياء المتمتعين بالإدراك والتمييز وغير المتمتعين به من مجانين ومختلي العقل.
   أما من ناحية العقوبة فان أنصار هذه المدرسة يرون ضرورة استبعادها من التداول واستبدالها بالإجراءات الوقائية ومن خلال فلسفتهم فإنهم يقولون بأن الجرائم لا عقاب عليها، إنما لا بد من توخي الوقاية منها أجلا أو مستقبلا من طرف المجتمع عن طريق الإجراءات الوقائية وهكذا فإنهم يقرون عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد بالنسبة لمن يعارض الإعدام للمجرمين المعتادين وبالفطرة لأنه لا أمل في علاجهم, وإقصاء هؤلاء من الحياة اقتضته وقاية المجتمع مما يعكر صفوة حياته وتعايشه .
      أما بالنسبة للمجرم المجنون فإنهم يرون ضرورة إبعاده عن المجتمع تجنبا لخطره بوضعه في الأماكن المخصصة للعلاج.
     وبخصوص المجرمين بالصدفة والعاطفة فيعتقدون انه لا خطر منهم في حق المجتمع وبالتالي فإنه يجب إرهابهم عن طريق إجراءات وقائية مناسبة حتى يعودوا أعضاء صالحين لا خوف بعد ذلك من إقدامهم على السلوك المنحرف.
      وهكذا تمكنت هذه المدرسة في دراستها من التركيز على المجرم لا على الجريمة وعلى الاهتمام بالتدابير الوقائية فكانت هذه المدرسة بحق فاتحة خير على علم الإجرام، فبحثت في الظروف الشخصية للمجرمين وميزت بين أصنافهم وحددت العلاج المناسب لكل صنف منهم .
    ورغم محاسن هذه المدرسة ورغم اهتمام الدارسين والباحثين بأفكارهم فإن المشرع الجنائي بقي مخلصا لفلسفة المدرسة التقليدية المبنية على مبدأ المجرم المخير لا المجبر.

ليست هناك تعليقات

© جميع الحقوق محفوظة صفحات قانونية 2020 - حقوق الطبع والنشر | الناشر صفحات قانونية | سياسة الخصوصية